فإذ بخيرها وشرها يتلاطم ، وسلوكيات أهلها تتفاقم ، وتصرفات بعضهم تتعاظم ، لكن لاتعدم دنيانا ممن يتعايش مع الناس بهدوء ، ويوجههم برفق وحق وعقلانية ، ويتصيد وعيهم نصحا وتوجيها وإرشادا .
ومما ظهر على السطح المجتمعي في الآونة الأخيرة ، عبر وسائل التواصلي المجتمعي ، مزاد رقاب بشرية .
تتمثل في منهج نداءات استغاثة بشرية ، واستفزاع باسم الدين تارة ، وباسم الدم القبلي تارة، وربما باسم الوطنية والإنسانية تارة أخرى .
رسائل تصل لجوالتنا الكفية المحمولة، وأشعار تجعل من يستمع يشوش رأسه ، وتنفعل مشاعره ، ويفقد توازنه ، حمية وسطرا ، أو رحمة وعطفا ، أو ربما شيطنة مسكونة في أجساد بشر .
تتفحص القضية فإذ هي جريمة قتل وقعت .
القاتل في إصلاحيات السلوك مسجون .
والمقتول في المقبرة مدفون .
تتأمل رويدا رويدا فإذ بوجاهات مشيخة متوارثة منذ الجاهلية تلبس مشالحها باستفزاع من عصبة القاتل ، عامدة ذوي المقتول ؛ طلبا لصلح الفداء ، واستشفاعا عن جرم القاتل المسجون ، يجتمعون عند ولي الدم فيتحدث ألسنهم كلاما ، مستعطفا بمنطوق تعلوه الذلة والمسكنة والاسترحام والاستعطاف .
يعرضون عليه من حطام الدنيا ما شاء بتنوع عرض مالي ؛ طلبا للصلح المراد ، وتصيدا لموافقة منه ، بحقه الذي يريد ، وربما ضعف أولياء الدم باختيار ، أو ربما بإحراج وإجبار ، فيتنازلون عن دم القاتل ( القصاص ) بملايين مملينة ملينة ، عن طريق وعد مشروط بزمن معتمد ، فتلقى عليه القبلات والدعوات تقديرا لإجابته الزيارة ، واستجابته للوجاهات الشافعة ، فينفض الجمع إلى القبيلة ، استفزاعا ، واستعطافا ، واسترحاما ، وحدث ولاحرج من الإرهاق الذي سيحصل في أسر القبيلة وميزانياتها المتواضعة، وحال بعضها المتعب . وربما لاكت الألسن الشريرة العفنة أعراض من تخلف عن دفع هذا الفداء من أبناء القبيلة من ميسوري الحال ، ومتواضعي المادة ! ، ممن يرون أنهم غير ملزمين بفداء هذه الجريمة وصاحبها ، شرعا ، وعرفا ، و نظاما .
هنا يتم جمع المبلغ المشروط الموعود ، فيطلق سراح ذلك القاتل ، صاحب الكبيرة ( القتل ) ، فيحتفل به ذووه احتفال الأبطال ، وربما ارتفعت أصوات الشعراء في قصائدهم ، وآهات المنشدين في شيلاتهم تمجيدا للقبيلة ، وذكر بعض أمجادها الغابرة التي لاتنقص إجراما عن هذه القضية التي يجمعون الأموال لها ( قتل الأنفس المعصومة ) ، وهكذا تدور الدائرة على القبيلة مرة أخرى بإجرام آخر من صاحب كبيرة أخرى . . .
هذا بعض واقعنا المجتمعي في الآونة الآخيرة ، والواقع شاهد ، والعيون تلاحظ ، والآذان تسمع ، والإحساس يتألم .
إنها مشكلة تؤرق العقلاء والحكماء والغيورين ، مما دفع بعضهم لإنشاء صناديق مالية لدفع فداء الدم ( الصلح ) ، تجمع من القبيلة إجبارا، فردا فرد لليوم الأسود القادم ؛ انتظارا لجريمة قتل أخرى مستقبلية يطلب أولياؤها فداء ماليا مشروطا .
ولكون كل مشكلة لها حل ، يقترح العارفون في علاج ذلك الواقع عدة اقتراحات يستنير بها العقلاء والحكماء لعلها تجد آذانا صاغية ، وعقولا واعية ، وضمائر سامية ،وقرارات منتظرة :
1- اقتراح مبلغ مالي مقبول لصلح الفداء من قبل أحد أعضاء مجلس الشورى ، ومناقشته من قبل المجلس بروية وهدوء وحكمة ، ثم يتم تحديد المبلغ المتفق عليه بإجماع واعتماد ، كمثل مبالغ الديات الشرعية المعمول بها في محاكمنا الشرعية . والرفع بذلك لمقام مجلس الوزراء لإقراره ، وأخذ الأمر باعتماد تنفيذه .
2- إسناد تنفيذ مايرد بهذا الشأن للجهات المعنية من المحاكم الشرعية ، ودور العدل ، ومديريات الأمن في الإشراف على تنفيذ الأمر الوزاري الكريم في حال صدوره . بأن يسجل رسميا بصك معتمد ، توقيع مشيخة القبيلة ، وعميد العائلة ، وعمدة الحي ، على ذلك المبلغ المحدد لصلح الفداء ، في حال إذا ما وقع مكروه مستقبلا ، لاقدر الله .
3- الطلب من مشيخة القبائل ، وعمداء العوائل ، وعمد الأحياء ، وأعيان الأسر ، أخذ تواقيع أفراد القبيلة ، وأبناء العائلة ، وسكان الأحياء فردا فردا ، في تنفيذ ذلك الاتفاق في حال حصول مكروه لاقدر الله .
4- تشجيع العفو عن القصاص ، وهو ماكان لله بلا مقابل ، وتشجيع أهله ؛ تكريما لهم وتعزيزا لمبادئهم ، عبر سن قوانين وأنظمة تختص بتكريمهم .
5- إسناد عملية الصلح لدور إصلاح ذات البين التابعة للمحاكم الشرعية والموجودة في كل منطقة ومحافظة ، وتفعيل عملها المنوط بها .
6-تحجيم دور الشفاعات العامية ، المنطلقة من جاهلية عمياء .
7- توعية المجتمع في التحذير من هذه الكبيرة عبر المدارس ومناهجها ، والمساجد ومنابرها ، والإعلام الفضائي وقنواته وبرامجه .
8- الإسراع في تنفيذ حدود الله في أرضه ، فذلك كفيل بقطع الطريق على مجبري أولياء الدم بالتنازل عن حقهم الشرعي المحفوظ بقولهم .
فكم من قاتل قضى أكثر من خمس وثلاثين سنة وراء قضبان سجن مؤلم يتعذب ألما ، يود لو نفذ فيه حد الله ليلقى ربه بلا ذنب كبيرته التي ينتظر جزاءها في الدنياوالآخرة .
9- مراقبة الأموال المجموعة لهذا الشأن والإشراف عليها من قبل قضائنا الشرعي النزيه ، وتوزيعها عبر الميراث الشرعي لورثة المقتول ، فهي لورثته شرعا ونظاما ، وقسمتها عبر الميراث الشرعي كما قدرها الله سبحانه في كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .
هذا بعض واقع أليم مؤلم ، شاركت ببعض حلوله تنظيرا ، ونطقت بتجارب عايشتها في وقائع سابقة دخلتها على مضض ، لكن الحق أحق أن يتبع . وبيان الحق مسؤولية الضمائر الطهرانية التي تفرح بالخير والإحسان والعدل والعفو حيثما يكون .
وموازنة الأمور يدركها الفطن ، ويتغابى عنها العفن .
إذ الحقيقة يكفيها لسان واحد في إيرادها وبيانها ، وكل له وجهه في قبولها ، ولكل وجه جهة ، وللجميع إحساس يحس به إن أراد .
والله من وراء القصد . وهو الهادي إلى سواء السبيل .
بقلم : علي بن سعد الفريدي .
2