30-05-08, 11:20 PM
|
المشاركة رقم: 1 |
المعلومات | الكاتب: | | اللقب: | عضو مؤسس وإداري سابق
| الرتبة: | | الصورة الرمزية | | البيانات | التسجيل: | May 2007 | العضوية: | 316 | الاقامة: | بريده | الجنس: | ذكر | المواضيع: | 361 | الردود: | 5482 | جميع المشاركات: | 5,843 [+] | بمعدل : | 0.91 يوميا | تلقى » 26 اعجاب | ارسل » 1 اعجاب | اخر زياره : | [+] | معدل التقييم: | | نقاط التقييم: | 309 | الإتصالات | الحالة: | | وسائل الإتصال: | | | المنتدى :
أصـيل الــقـــوافي مالك بن الريب ......يرثي نفسه حياً شاعر لم يغن مع الحمائم في الروض الأغنّ ، ولم يَهِم مع السواقي في الوادي الضائع ، ولم يدلج مع النجم في الأسحار الندية بعطر الفجر ، ولم يتبع الشمس في العشايا السكرى بخمر الغروب ، ولم يرقب طيف الحبيب في الليالي التي تكتم أسرار الهوى
ولكن سابقت شاعرية الشعراء الزمان فسبت الشباب ، وظهرت بوادرها في مدارج الصبا، وملاعب الفتوة، فإن هذا الشاعر لم تنبثق شاعريته إلا على سرير الموت ، وشفا المردى، على عتبة الدنيا خارجاً منها، وعتبة الآخرة داخلاً إليها.
في الساعة التي يَعيا فيها الشاعر ، ويؤمن فيها الكافر، ويضعف فيها القوي، ويفتقر فيها الغني.
ولم تنبثق إلا بقصيدة واحدة، ولكنها كانت نفحة من عالم الخلود فخلد فيها.
قصيدة وهبها للموت، إن تغنى له فيها، فوهب له الموت بها الحياة .
لم يتفلسف فيها تفلسف المعري ، ولا تجبر تجبر المتنبي ، ولا أغرب إغراب الدريدي ، ولكنه جاء بأقرب الأفكار، في أسهل الألفاظ ، فجاءت من هذه السهولة عظمة القصيدة .
والفنون كلها تموت يا سادة إن أكرهتها على الحياة في جو التكلف ، التكلف في التفكير أو التعبير.
إن الفنون لا تحيا إلا في الانطلاق والحرية ، كل الفنون: الكتابة والشعر والتصوير والموسيقى ، حتى الإلقاء، فليفهم ذلك من يظن أن الإلقاء الجيد هو التشدق والتقعر، وإمالة اللسان، وقلب الحناجر، وضخامة الأصوات . . . وما نسمعه كل يوم في الإذاعات .
شاعر لم يعش شاعراً، ولكنه مات شاعراً .
عاش عمره كله يغني بسنانه للحرب ، لا يغني بلسانه للحب ، لا يعمل لوصال الأحبة، وسلب القلوب ، ولكن يعمل لقطع الطرق وسلب القوافل . كان لصاً من أشهر لصوص العصر، ثم تاب ومشى إلى الجهاد في جيش ابن عفانرضي الله عنه، حتى أدركته الوفاة وهو على أبواب خراسان ، فرثى نفسه بهذه القصيدة ، التي لا أعرف في موضوعها- أي رثاء الشاعر نفسه - إلا قصائد معدودة في آداب الأمم كلها.
وإنها لتختلف الألسنة والألوان ، وتتبدل المذاهب والأديان ، وتتباعد المنازل والبلدان ، ولكن شيئاً واحداً لا يختلف بين نفس ونفس ، ولا يتبدل بتبدل الأعصار والأمصار ، هو العواطف البشرية ، إن أناشيد المجنون لليلى أناشيد كل عاشق أينما كان ، وقصة ( بول وفرجيني ) قصة كل شاب مغرم في كل زمان، وخطب ( فيخته ) هي خطب كل أمة قد هبت تبني المجد، وتعمل للحياة .
ومن هنا جاءت عظمة الأدب ، وجاء خلوده ، إنه ليس كالعلوم. إن قرأ طالب الطب في كتاب ألّف قبل أربعين سنة فقط سقط في الامتحان ، أما طالب الأدب فيقرأ شعراً قيل من ألف وخمسمائة سنة ولا يزال جديداً كأنه قيل اليوم.
لا، لا تقولوا إن العلوم تترقى وتتقدم وتسعى إلى الكمال، لأن الجواب حاضر، إن الأدب قد بلغ سن الرشد، وحدّ الكمال، من قبل أن يولد العلم ، وقد عاش البشر دهوراً بلا علم، ولكنهم لم يعيشوا يوماً بلا أدب . إن آدم قال لحواء كلمة الحب ، لم يحدثها في الكيمياء ، ولا حل معها مسائل الجبر في رياض الجنة ((هذا كلام الأدباء))
الشعر أخلد من الكيمياء ، وأبقى من الرياضيات . كم مرة تبدلت نظريات العالم، منذ نظم هوميروس قصيدته، إلى اليوم. وأشعار هوميروس لا يزال لها رونقها ومنزلتها.
لا أعني الشعر الذي هو الرنات والأوزان، ولا الألفاظ المنمقة التي تحمل معنى ، ولكن أعني بالشعر حديث النفس، ولغة القلوب ، وكل ما يهز ويشجي ويبعث الذكريات ، وينشئ الآمال ويقيم النهضات، ويحيي الأمم. الشعر الذي يشعرك أنه يحملك إلى عالم غير هذا العالم. وسواء بعد ذلك أكان منظوماً أم كان نثراً. إن عقد اللؤلؤ لا ينزل قيمته أن ينتثر، لأن ثمن الخيط نصف قرش !
وإليكم الآن مقاطع من هذه القصيدة :
عربي عاش عمره كله في جزيرته، ما استمتع بحياتهن ولا ناجى طيف ذكرياته، ولا انتشى برحيق آماله ، لأنه لم يجد يوم راحة، يخلو فيه إلى نفيه فيحس لذة الأحلام، وجمال التذكر، وسحر الأمل ، لينبثق في نفسه الشعر المخبوء فيها، كما يختبئ الماء في بطن الجبل، يرقب معولاً يفتح له الطريق .
وهاهو ذا الآن ملقى على صعيد غريب عنه، في بلاد لا يعرفها ولا تعرفه، ولا يألفها ولا تألفه، فهو يتذكر الآن -الآن فقط- بلده وأرضه، ويدرك قيمة تلك النعم الجسام، ولا يدرك المرء قيمة النعم إلا بعد زوالها، وتثور في نفسه الأماني ، فلا يتمنى إلا أن يبيت ليلة أخرى بجنب الغضى ، وأن يسوق - كرة أخرى - إبله إلى المرعى، ويذكر كيف كان يزدري هذه النعمة التي يراها الآن عظيمة، ويتمنى - وليس ينفع التمني - لو أنه لم يسر من تلك الديار ، أو لو أنه طال الطريق حتى يستمتع بها.
واسمعوه الآن يقول بألفاظه ورنّته، وقافيته الباكية التي تذكركم بقصيدة أخرى من وزنها وروّيها، لشاعر يماني غريب هو عبد يغوث :
ألا ليـت شعـري هـل أبيتـن ليلـة =بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا
فليـت الغضى لم يقطع الركب عرضه =وليـت الغضى ماشى الركـاب لياليا
لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضا =مـــزار ولكــن الغـضى ليـس دانيـا
ويلوم نفسه ويعجب منها كيف سوّغت له أن يقبل بهذا النفي راضياً مختاراً ، ويعجب من أبويه كيف لم ينهياه ، وما الذي جاء به إلى باب خراسان وقد كان نائياً عنه :
ألم ترني بعـت الضـلالة بالهدى =وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
لعمري لئن غالت خـــــراسان هامتي =لقـد كنت عن بـابي خراسـان نائيـا
فلله درّي يـوم أتـــــرك طـائعـاً =بنيّ بـأعلى الرقمتيـن ومـالـيـا
ودرّ الظـبـاء السانــــحات عشية =يخبِّـرن أني هـالـك مـن ورائـيـا
ودرّ كبيـريّ اللذيـن كلاهـمــــا =عليّ شفيـق نـاصـح لـو نهـانيـا
واسمعوه كيف يفتش عمن يبكي عليه فلا يجد أحداً، لا يجد من يبكيه إلا سيفه وفرسه، وليس ينفع الميت أن يذكره ذاكر إلا ذاكراً بدعاء أو صدقه، ولا يضره أن ينساه الناس ، وما حفلات التأبين للميت ولكن للأحياء يصعدون على قبر الميت ليقولوا للناس : انظروا إلينا، واسمعوا بياننا، وصفقوا لنا.
ولقد صدق سبنسر إذ قال: كلنا يبكي في المآتم ، وكل يبكي على ميته .
ليس ينفع بكاء ولا نواح ولكنها غريزة التمسك بالحياة والاستكثار منها:
تذكــــرت من يبكي عليّ فلم أجـد =سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا
وأشـقـر خنذيــــذ يــجرَّ عنانــــه =إلى الماء لم يترك له الدهر ساقيـا
وأرجو أن تتجاوزوا عن كلمة ( خنذيذ) التي ترونها غريبة ولم تكن غريبة أيامه. وانظروا إلى جمال الصورة وروعتها. هذا الحصان يتلفت يمنة ويسرة ، ويدور وينعطف ويفتش عن صاحبه فلا يلقاه ، فينسى الطعام والشراب ، حتى يبرّح به العطش ولا يجد من يسقيه ، فيجر عنانه ( انتبهوا إلى دقة الوصف في جر العنان ، أي الرسن ) إلى الماء .
لو أن مصوراً صور معنى هذا البيت لكان لوحة من لوحات العبقرية، وما أكثر ما في هذه القصيدة من صور .
وهاكم هذه اللوحة التي بلغت من الروعة أبعد الغايات ، والتي تذيب القلوب ، فتسيلها دموعاً.
هذه اللوحة التي أعرضها كما هي، لا أحب ان أفسدها بشرح أو تعليق :
ولـــما تراءت عند مرو منـيّـتـي =وخلَّ بها جسمـي وحـانت وفـاتـيـا
أقـول لأصحـابي: ارفعوني فــإنني =يقـرّ لعينـي أن سُهيـلٌ بـدا ليـا
فيا صاحبي رحلي دنا الموتُ فانـزلا =برابيـة ؛ إني مـقـيـم لـيـالـيـا
أقيما علي اليـوم أو بعض ليلــــة =ولا تعجـلاني ؛ وقـد تبيـّن مـا بيـا
وقوما إذا ما استُلّ روحي وهيئــــا =لي السَّدر والاكفـان ثم ابكيـا ليـا
وخطّا بأطـــــراف الأسنّـة مَضْجَعي =ورُدّا على عيـنـي فضْـلَ ردائـيـا
ولا تحسداني – بــارك الله فيكما - =من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خـذاني فجــــــراني ببُردي إليكمـا =فقد كنت قبل اليـوم صعبـاً قيـاديـا
ويعلم أنه لن يجد من يقوم على قبره ، ويشيد بذكرهن فيرثي نفسه، ويكشف عن فعاله بمقاله :
وقـد كنت عطّافـاً إذا الخيـل أدبـرت =سريعاً إلى الهَيْجا إلى من دعانيــــا
وقد كنت محمـوداً لدى الزاد والقـرى =وعن شتمي ابن العم والجار وانيــــا
وقد كنت صبّاراً على القرن في الوغى =ثقيلاً على الأعداء عَضْباً لسانيــــــا
ويعود إلى إتمام هذه اللوحة الرائعة، فيتصور مسيرة أصحابه وبقاءه، وحيداً في هذه الفلاة :
غداة غد يالَهْف نفسي على غــــد =إذا أدلجوا عني وخُلّفـت ثـاويـا
وأصبح مالي من طريـف وتالـــد =لغيري وكان المال بالأمس ماليا
ويسأل رفيقيه حاجة له هي آخر حاجاته من دنياه، أن يحملوا نعيه إلى أهله، إلى بئر الشبيك ، حيث يزدحم بنات الحيّ ، يملأن الجرار، ويستقين، فيصرخ ، فيدعن ما هنّ فيه، ويلتفتن إليه، وتسمع زوجته، فيلقي إليها بوصاته ، وما وصاته إلا أن تقف على القبور؛ علَّها تذكرها بقبره الضائع، حيث لا زائر ولا ذاكر :
وقوما على بئر الشُّبَيك فأســـــمعا =بها الوحش والبيض الحسان الروانيا
بأنـكـما خَلّفتُمـــــــاني بِقَفْـرَةٍ =تهيـل عليّ الريـحُ فيها السوافيـا
ولا تنسيـا عهدي خليـــليّ إنني =تَقَطّـعُ أوصـالـي وتبلى عظاميـا
فلن يعدم الوالون بيتـاً يُجنُّـــني =ولن يعـدم الميـراث مني المواليـا
ويا ليت شعري هـــل تغيرت الرحى =رحى المثل أو أضحت بفلج كما هيا
إذا مـت فاعتـــادي القبـور فسلمي =على الرّيم أسقيتِ الغمام الغواديـا
ويعود إلى حاضره، ويشتغل بنفسه، ويرجع إلى ذكر بلده وأهله، ويختم القصيدة بهذا المقطع :
أقلِّب طرْفي فوق رحلي فـلا أرى =به من عيون المؤنسات مراعيا
وبالـرمل منـــا نسـوة شَهِدنني =بكَين يفَدينَ الطبيـب المداويـا
فمنهن أمي وابنتـاها وخـالتي =وباكية أخرى تهيج البواكيا
وما كان عهد الرّمل مني وأهله =ذميما ولا بالرمل ودّعتُ قاليـا
* * * * * * * * * *
يا سادة : لقد مات مع مالك في تلك السفرة آلاف وآلاف ،
ولا يزال الناس قبله وبعده يموتون ، فينساهم ذووهم، ويسلوهم أهلوهم، وهذا الشاعر جعلكم تذكرونه، وتبكونه بعد ألف وثلاثمئة سنة، وأنتم لا تعرفونه ...
وهذه هي عظمة الشعر، وهذا هو خلود الشاعر ...
**************
من ابداعات الشيخ /علي الطنطاوي
رحمة الله عليه
----------------------
|
| |