يقول -رحمه الله-:
ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفوراً الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار
، وإنما نزل بطبيعته ، فالمنزّل له عندهم : هو الطبيعة ، وأن طبيعة الماء التبخر ، إذا تكاثرت عليه
درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح ، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته . ثم يجتمع ، ثم
يتقاطر . وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له ، وأنه هو المطر . فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر
وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله ، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده ، فمثل هؤلاء
داخلون في قوله: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) بعد قوله: ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ) .
وقد صرح في قوله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ) أنه تعالى ، هو مصرف الماء ، ومنزلة حيث شاء كيف شاء . ومن
قبيل هذا المعنى : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال:
صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل ، فلما
انصرف أقبل على الناس فقال : "هل تدرون ماذا قال ربكم ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال:
أصبح من عبادي مؤمن بي ، وكافر بي : فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر
بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " هذا لفظ مسلم رحمه الله
في صحيحه ، ولا شك أن من قال : مطرنا ببخار كذا مسنداً ذلك للطبيعة ، أنه كافر بالله مؤمن
بالطبيعة والبخار . والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر ، إلا أنهم يسندون فعل ذلك
الفاعل المختار جل وعلا ، ومن أشعارهم في ذلك:
ـ قول طرفة بن العبد :
لا تلمني إنها من نسوة رقد الصيف مقاليت نزر
كبنات البحر يمأدن إذا أنبت الصيف عساليج الخضر
فقوله : بنات البحر يعني : المزن التي أصل مائها من البحر .
ــــــــــــــــــ
ـ وقول أبي ذؤيب الهذلي :
سقى أم عمرو كل آخر ليلة حناتم غرماؤهن نجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج
ولا شك أن خالق السموات والأرض جل وعلا ، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
ـــــــــــــــــــــــــ ـ
[انتهى من أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للعالم محمد الأمين الشنقيطي] .