الفلاح أم النجاح
حامد الإدريسي
الناجح والفاشل، الرابح والخاسر، السعيد والشقي، الموفق والمحروم، عبارات متباعدة متشاقة مختلفة، بعضها في أقصى اليمين وبعضها في أقصى الشمال، بعضها يجلب الفرح والسرور، وبعضها يجلب التعاسة والنكد. إنها مصداق من مصاديق قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)، وقوله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وقوله : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وقوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً).
إن كل إنسان يسعى إلى أن يحصّل لنفسه هذه السعادة، والتي يمكن أن نجملها في عنصرين اثنين:
1. الشعور بالرضا.
2. الشعور بالأمن.
وهذان العنصران أساسيان لحصول السعادة، بل هما ركناها اللذان تقوم عليهما؛ فلا سعادة بدون رضا، ولا رضا بدون شعور بالأمن، وأعني بالأمن كل أنواعه المادية والاجتماعية.
لقد ارتأيت الحديث عن هذا الموضوع، لأقاربه من زاويتنا نحن، لا من زاوية براين تريسي، وأنتوني روبنز، وستيفن كوفي، وممثليهم من العرب ممن سار على دربهم واتبع سبيلهم.
إن الذين حملوا هذا الشعار في عصرنا، وتكلّموا عن النجاح، إنما استوردوه من أساتذتهم في الغرب، وبمواصفات غربية، تتلاءم وهزالة الفكر وضيق الأفق الذي يعيشه العقل الغربي المادي المتمرد على الوحي، الذي لا يؤمن إلاّ بالمحسوس، ولا يطيق الغيبيات التي لا يمسّها بيده، ولا يراها بعينه، ولا يمضغها بأسنانه.
لقد حملوا هذا النجاح الجديد، ولم يستطيعوا أن يتخلصوا من الانبهار القمعي الذي مارسته الحضارة الغربية على شعوبهم وعلى عروبتهم، هذا الانبهار الذي يعشي العين، ويشوش على العقل، ويجعل المتلقي آلة استقبال، ويلغي جزءاً كبيراً من ملكة النقد والسبر لديه، وهو وسيلة خفية من وسائل القمع العام الذي يمارسه الغالب على المغلوب.
ولقد حاول أكثرهم أن يضيف على هذه الأفكار الغربية توابل عربية، ويغمسها في ما جمعه من نصوص الكتاب والسنة، لتصير بطعم مستساغ، ولتبدو في حلة مقبولة، ولتغطي جسدها العاري بشيء من المبادئ الإسلامية، وذلك من أجل تلافي النقص الشديد الحاصل في هذه النظريات التي حشرت مفهوم النجاح في الجانب المادي.
وهم مشكورون على هذه المحاولة، التي ألجأتهم إليها فطرتهم الإسلامية، وثقافتهم العربية، لكنهم أخطؤوا الطريق حين قصدوا إلى مجتمعات فاشلة يبحثون فيها عن النجاح، والتمسوا عند شعوب شقية السعادةَ، حتى إذا ما نضجت تلك الأفكار في عقولهم، واستوت على سوقها في نفوسهم، أقبلوا على الوحيين يجرون نصوصهما جراً، ويحشرونها هناك حشراً؛ فخرجت نظرياتهم مشوهة المعالم، لا هي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، عوان بين ذلك، لم تواتها تلك الملابس، ولم تستر عوراتها؛ فأنّى لنظريات الغرب أن ترقى إلى ديننا، وأنّى لعقول تعاقر الخمور أن تسامي وَحْينا.
إن الإسلام لا ينظر إلى من حقق مليوناً في متاجرة، أو نال الغنى في مقامرة، أو سطع نجمه في قناة، أو لمع اسمه في مباراة، أنه نجح أو حقق نجاحاً، كلا، فأولئك هم الخاسرون.
إن النجاح الغربي هو أن يحقق الإنسان أهدافه التي رسمها لنفسه، بغض النظر عن ماهيّة تلك الأهداف وسبيل تحقيقها، لكن الفلاح في ديننا هو أن يحقق المسلم هدفه الأوحد في عبادة الله وعمارة الأرض بما يرضي الله، على سنة رسول الله، أما الغنى والفقر، فهو مؤطر عندنا بإطار "ما نشاء"، وإطار "لمن نريد"، اللّذين جاءا في قوله تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ).
ومهما سعى في العاجلة، وبالغ في السعي وتأنّق في الأسباب، وسلك السبل وارتكب المحرم، فلن يخرج عن هذين الإطارين، ولن ينال إلاّ ما شاء الله لمن شاء الله، هذا لمن كان يريد العاجلة، أما من أراد الآخرة وسعى لها سعيها: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً) وفي النهاية فإن كلا الفريقين، ممن أراد الآخرة أو أراد العاجلة ينالان ما قسم الله لهما: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ولو وقفنا عند كلمة ‘‘فضلنا’’ بل عند نونها فقط، لعرفنا سر القسمة، ومستنبط السلطة العظيمة التي تعطي وتمنع، وترفع وتخفض، وهذه النون هي نحن في قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ).
وإلك القضية من أساسها، والخلاف من جذوره.
إن السعي عندنا مربوط بقدر محتوم، وقسمة سابقة، ولوح قد جفّ، وصحف قد طُويت، فمهما سعى الساعي في هذه العاجلة فهو في دائرة: (مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ) ومهما منع من الرزق وحرم من العطاء فهو في دائرة (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ودائرة : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ومهما استنفد من الوسع، وبذل من الطاقة فهو في إطار قوله عليه الصلاة والسلام: "لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يُنال بمعصيته".
إن المعنى المقابل لما يطرحه أهل النجاح وما هو بنجاح، هو معنى الفلاح؛ فالمفلح من حقق لنفسه ولأهله السعادة في الدارين، فذلك هو المفلح الذي قال الله عنه: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) إلى أن قال: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
أما نجاحهم الذي وُلد في مجتمع مادي يتصور أن السعادة في جمع المال وتوفير العيش الهانئ، فكل ما يمكن أن يُقال فيه: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير" ولذا، لا يعتبر الفقير عندنا فاشلا، بل هو ناجح ومفلح، أو لعله يكون من خير من يمشي على أراضينا، مع أنه معدم من كل برهج هذه الحياة وزخرفها، قال عليه الصلاة والسلام: "رب أشعث أغبر مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره". فهذا الرجل في مقاييس الفلاح والنجاح عندنا، يساوي كل الغرب وكل مفكريه وكل ناجحيه.
إذن، لا علاقة للغنى والفقر بالنجاح، ولا نقيس الناجح أو الفاشل على عدد الدراهم وأسماء المناصب، بل النظرية عندنا مختلفة تماما، فأشد الناس بلاء الأنبياء والصالحون والأمثل فالأمثل، وكلما أحب الله -عز وجل- عبداً أصاب منه، كما جاء في الحديث، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين". ويقول لأصحابه العظماء: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتح عليكم الدنيا". وجاء في الأثر: "إن الله ليمنع عبده من الدنيا كما يمنع الطبيب المريض من الطعام".
والناجحون في تاريخنا لم يكونوا من أهل المناصب والأموال، بل كان عمر الخليفة يرقع ثوبه، ويُسمَع لبطنه قرقرة من شدة الجوع، وأبو بكر -رضي الله عنه- أنفق ماله كله في سبيل الله، ولم يترك لأهله شيئاً، والصحابة يخرجون من بيوتهم في يوم حار لم يخرجهم إلاّ الجوع، فيجدون من؟ يجدون رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خارجاً من بيته لم يخرجه إلاّ الجوع!
فعن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فجلس، ثم جاء أبو بكر فجلس إليه فقال: ما أخرجك يا رسول الله؟ قال: الجوع قال: و أنا ما أخرجني إلاّ الجوع، فجاء عمر فقال مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: انطلقوا بنا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان، فأتوا منزله فلم يوافقوه، وأذنت لهم امرأته فدخلوا، فجاء أبو الهيثم فصرم لهم عذقا من نخلة، ثم قدم إليهم فأكلوا من الرطب والبسر فذهب يذبح لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لا تذبح لنا ذات درّ، فأتى باللحم فأكلوا من اللحم والرطب والبسر، ثم شربوا من الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لتُسألُنّ عن هذا النعيم، و إن هذا من النعيم الذي تُسألون عنه، ثم قال لأبي الهيثم إذا جاءنا سبي فأتنا نأمر لك بخادم"1. إن هؤلاء الرجال الثلاثة الذين أخرجهم الجوع، قد أخرج الله بهم البشرية من الشقاء إلى السعادة، ومن الظلمات إلى النور، ومن الفشل إلى النجاح.
إن معركة النجاح عندنا ليست مع المال، بل هي مع النفس، والمفلح الناجح من فاز على نفسه وقهر طغيانها وجموحها، وضده العاجز الذي أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، فذلك هو الفاشل الأكبر والخاسر المبين وإن بنى المباني وشيد العمائر واستعلى على العباد، ونودي باسمه في مسارح دورات النجاح (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ)؟!
إن مما علمنا الإسلام، أن لا نعتبر النجاح بالمال والكثرة، وإن مما نهانا عنه، أن يلهينا التكاثر حتى نزور المقابر، وأن الفلاح والنجاح هو أن يزكي الإنسان نفسه بالعمل الصالح: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).
إننا عندما نضع هذا المبدأ الذي هو من مسلَّمات الدين في معادلة النجاح، نكون قد هدمنا كل نظريات أولئك النفر الذين سميتهم والذين لم أسمهم، والذين جاؤوا إلى الشمس يحملون القناديل، وإلى هجر يحملون تمراً، وإلى خير أمة أُخرجت للناس، يعلّمونهم كيف يحيون حياة طيبة!
عندما نخرج المال من المعادلة، ولا نقيس النجاح بمأكل ومشرب ومسكن، تتلاشى كل نظرياتهم وآرائهم، ولايبقى لهم منها إلاّ بعض الأسباب والترتيبات التي جمعها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقلْ لو فإن لو تفتح عمل الشيطان". فخذ أخي هذا الحديث، واعرضه على كتبهم كلها، فإنها تطير كما تطير القشة في مجرى الريح.
إن الإسلام لم يأت إلاّ لتحقيق الفلاح والسعادة والنجاح،و قد علّق هذا كله على شيء واحد: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وجعل عكس هذا كله في آية واحدة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)، فلا تغرّنك ملابسهم الأنيقة، ولا ربطات أعناقهم اللامعة، ولا ابتساماتهم العريضة، ولا تسحرنّك وسائل إعلامهم المؤثرة، فتحسب أنهم حققوا السعادة، وعرفوا طريق النجاح، فعندما يحلّ الظلام، لن يبقى لهم من كل ذلك الهراء إلاّ زجاجة خمر، يلجؤون إليها هروباً من شقائهم البائس، وفشلهم الذريع.
وهنا نرجع إلى ما قلناه أولاً: من أن السعادة لا تقوم إلاّ على ركنين أساسيين: الشعور بالرضا، والأمن المادي والمعنوي، وذلك لا يتحقق إلاّ للمؤمنين (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ).
والخلاصة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ). صدق الله العظيم.