وينبغي علينا والأمر كذلك ، الطَرقُ بيد المحاسبة والعقاب فوق هذا الحديد وهو ساخن، بمعنى أنه إذ أردنا أن نقضي على الفساد – ليس في جدة فحسب- و بؤره الذي تكشف وجهه القبيح في كارثة السيل المدمر، ينبغي علينا أن نكشف هؤلاء المفسدين وألا نغتر بمكانتهم ، ثم نحدد الأسباب التي سهلت لهم طرق هذا الإجرام، لنتمكن من محاولة الحل من الجذر، و إلا كان العمل هباءً منثورا.
وهذا بالضبط ما اشتمل عليه قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حين لم يكتفي بمشاركة الناس أحزانهم بصرف مليون ريال لذوي كل شهيد غرق في سيول الإهمال والتقصير، وتعويض المتضررين في ممتلكاتهم، بل أمر بما هو أهم من ذلك وهو تشكيل لجنة على أعلى مستوى يتابع الملك بنفسه سير أعمالها وترفع إليه نتائج تقاريرها، وذلك للتحقيق في أسباب هذه الفاجعة، التي وصف خادم الحرمين هول بشاعتها بقوله : إنه" من المؤسف له أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة وهو ما آلمنا أشد الألم".
ولو صدقت النيات وصحت العزائم سيتم تحديد مسؤولية كل جهة حكومية أو أي شخص " كائناً من كان" له علاقة بهذه الكارثة، التي لو حدثت في جزر الموز بالمحيط الهندي ما ترتب عليها عشر هذه النتائج المفجعة، والتي تمثلت حتى كتابة هذه السطور وفاة 113 والبعض يقول أن العدد أضعاف هذا الرقم بالإضافة إلى المفقودين الذين لا يعرف أعدادهم حتى الآن إلا الله سبحانه وتعالى .. كذلك الممتلكات الـطائلة التي طمست ودمرت وأصبحت أثراً بعد عين، وليس هذا بالمستحيل ولا بالمتعذر فقد قيل : إذا صدق العزم وضح السبيل، وليتنا ندعم مبادرة المحاسبة والعقاب هذه التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين ، ولا نكتفي بالمشاهدة والبكاء والعويل ونساهم في إمداد اللجنة التي أمر بتشكيلها خادم الحرمين بالمعلومات والمستندات والصور والبيانات، لأن التستر على الفساد من اكبر أنواع المنكر، حيث أن المنكر ليس محصوراً فقط في التبرج و الخلوة والاختلاط!!
ولا يمكن القضاء على نتائج هذه الكارثة إلا عبر التغيير في الواقع، لأن الفساد لا يكون إلا عبر أسبابه، و ما دامت الأسباب مستمرة فالمسببات أيضاً مستمرة، ولن نقلل من جهود الشرفاء والجنود المجهولين الذين بذلوا جهوداً جبارة للإنقاذ وفق أولوياتهم وبإمكاناتهم المحدودة وأحياناً باجتهادات فردية وبمساعدة من المواطنين المتطوعين لتقليل الخسائر، وهو ما كشف أن أسلوب إدارة الأزمة والتنسيق بين الجهات المسئولة كان دون إمكانات دولة بلغت من التقدم ولها موارد ضخمة مثل المملكة العربية السعودية، فمن المحزن أن السيل حينما بدأ على استحياء ظن أن المليارات التي أنفقت في برامج الإنقاذ والتخطيط العمراني وتكديس المعدات المدنية والرافعات وخرائط شبكة تصريف المياه في انتظاره، ولكنه لم يجد أي من ذلك بل لم يجد فرق الإنقاذ تظهر له في الساعات الأولى من هذه الكارثة، مما جعلهم في نهاية المطاف رهائن في المنازل، بدون كهرباء ولا ماء ولا إضاءة طوارئ ولا مقومات سلامة ولا أمن، يقتل العشرات منهم ويجرف أطفالهم وسط صراخ الأمهات وعويل الآباء الذي أحال العيد في جدة إلى مأتم وعزاء كبير بحجم الكارثة.
وحقيقة هول الفاجعة ينبغي أن نجد لها جواباً بعد أن فضح السيل الخفايا ، فهل لو كان منزل أحداً من كبار المسئولين أو محافظ المدينة أو معالي أمين جدة أو أحد وكلائه من بين تلك الأنقاض أو أن أسرته – لا قدر الله- من بين تلك الأسر الثكلى التي لن يعوضها أي شيء عن فقد أب أو ابن أو زوجة أو طفل ابتلعه السيل، هل تظنون أن الكارثة سوف يتم التعامل معها بهذا البطء والتراخي، وهل ستمر نتائجها هكذا مرور الكرام..؟!.
إن من النتائج الكارثية التي باتت رائحتها تزكم الأنوف تضرر شبكات المياه وتلويثها بالكامل، وهو خطر بيئي وهو ما ينبغي على الجهات المعنية أخذه في الحسبان أثناء معالجة هذه الأزمة، والتأكد من سلامة ونظافة شبكة رفع المياه والخزانات العلوية في الأحياء المنكوبة وعدم تلوثها بمياه المجاري .
وفي سياق الحديث عن هذه الكارثة البيئية التي جلبها السيل إلى جدة، أنتشر خبر ورد في صحيفة الشرق الأوسط منذ خمس سنوات، وتحديداً يوم الاثنيـن 04 جمـادى الأولى 1425 هـ 21 يونيو 2004 م العدد 9337 ، وكان بعنوان "مشروعات عاجلة بتكلفة 7 مليارات ريال لاحتواء مشكلة الصرف الصحي الحرجة في جدة"، وقفت مشدوهاً وأنا استرجع عنوان الخبر وتتردد في ذهني كلمة عاجلة، بينما يقفز إلى الذاكرة مشهد شاب يقف فوق سيارته التي يجرفها السيل يحاول القفز من فوقها في حال اقترب من أحد شاطئي الشارع، وكأننا في مدينة البندقية العائمة وليست جدة وكأن هذه الأرض ليست تربتنا الرملية..!
والأعجب حينما نسترجع ما قاله أمناء جدة على مدى عشرون عاما فبدءاً من محمد سعيد فارسي عام 1399هـ - 1979م الذي أكد أنه في العام المقبل – من تصريحه - سيستطيع تحقيق المعدل المطلوب وهو ساعة و نصف أمطار تحتاج لساعة و نصف فقط لتصريفها أما عند اكتمال مشروع تصريف مياه الأمطار في العام بعد المقبل فسيكون المعدل ساعة تصريف لكل ساعة و نصف أمطار!! "
ثم أكمل على نهجه د. نزيه نصيف 1420هـ -1999م حيث قال:" تستعد أمانة مدينة جدة منذ فترة طويلة لموسم الأمطار و هناك تنسيق مبكر لحصر الآليات و تجهيزها للعمل بالكفاءة المطلوبة حيث تم حصر كافة المواقع التي شهدت التجمعات ووضعت التدابير اللازمة لحل المشكلات التي تواجهها كل عام و قد تم تسليم المقاول 16 أمر عمل لتنفيذ عدد من التوصيلات الجديدة لمواقع كانت تشهد تجمعات مائية وسوف يتم الانتهاء من كل ذلك خلال عام واحد"
وساندهما الأمين اللاحق لهما في أقوالهماد. عبد الفتاح فؤاد 1422هـ - 2001 م حيث أكد أن مشاريع الصرف بتكلفة 8 مليارات تخدم مدينة جدة 40 عاما!!
وصرح عبد الله المعلمي 1423هـ -2002م :"بأن الأمانة تعمل على 60 مشروعاً بتكلفة مليار ريال ونتوقع عند الانتهاء من هذه المشاريع خلال الأعوام القليلة المقبلة أن نكون قد قدمنا الحل الكامل لمشاكل مدينة جدة مع التصريف بإذن الله "
ولعل آخر الأمناء م. عادل فقيه 2007م الذي استمر على نهج الأمناء في محاولة الظهور بالتصريحات المُنجزة التي تُشبه أحلام البؤساء في تقديم الحلول المعجزة للعروس المترهلة !! فقال:"(على سكان جده الانتظار 5 سنوات حتى ننتهي من ورش العمل و مشاريع الصرف أو يقبلوا العيش فيها بوضعها الحالي.) تم توقيع عقد إنشاء المنتزه الوطني و الغابة الشرقية شمال بحيرة المسك و سيتم الانتهاء منه خلال تسعة أشهر و هو ما يمثل حلا جذريًا لمشكلة البحيرة حيث يتوقع أن تستهلك كامل مياه البحيرة"
وهنا رابط فيه كلام الأمناء على مر السنوات والمشكلة منذ عشرين عاما لم تُحل!!!
http://www.al-madina.com/node/202850
ويُحق لنا أن نتساءل الآن بعد كل هذه التصريحات التي أظهرت أن هؤلاء الأمناء منذ عشرون سنة يُراهنون على حل المشكلة ولم ينجحوا بل وهناك تساؤل آخر أين صُرفت هذه المليارات منذ ذلك الوقت!! ويؤكد أيضاً أن الفساد مستشري في كثير من الدوائر الحكومية لضعف الرقابة على تنفيذ تلك المشروعات التنموية !
وإنه من الدجل أن تختزل الكارثة في جدة وحدها؛ فكل مناطق المملكة مرشحة بشكل أو بآخر لأن تضربها السيول أو حتى الزلازل – لا قدر الله- في أي وقت، ومن الدجل أيضاً الحديث فقط عن الأحياء العشوائية لأن السيل هذه المرة برهن على عدالته في توزيع الكارثة على الجميع، ومن خيانة الأمانة أن نسكت عن مشاريع أريد لها أن تتعثر وتم إيداعها رهينة الأدراج وعن سبعة مليارات لا ندري أين مصيرها !!، ونتمنى أن لا تمر هذه الكارثة إلا بدروس يعالج من خلالها الخلل في مختلف الجهات الحكومية والمجتمعية، فلقد انكشفت جدة لأنها في مجرى السيل, أما باقي المناطق فتحتاج لمن يكتشف بؤر الفساد فيها ليكشفها على حقيقتها وينقذ الناس من شرورها.
إن قوى الفساد الضاغطة كثيرة، وهي كثيراً ما تستدرج المصلح ليتحول بعد فترة وجيزة إلى جزء من جهاز الإفساد، وما نأمله أن تكون هذه الأزمة عونا للمخلصين من أبناء هذا الوطن والمسئولين المكلفين من قبل خادم الحرمين الشريفين في تنفيذ الخطط الطموحة لتطوير البنية التحتية لمختلف أحياء مدينة جدة، فيجب أن يستثمر الجانب الإيجابي من هذه الكارثة في إعادة خطط تنفيذ المشاريع الحكومية ورفع مستوى جودتها بما يتفق مع المقاييس العالمية للسلامة والجودة، ولأن اليد الواحدة لا تصفق كما في المثل فإن تبعثر الجهود توجب عدم الوصول إلى الهدف المنشود ..