09-07-09, 03:07 PM
|
المشاركة رقم: 1 |
المعلومات | الكاتب: | | اللقب: | مشرف سابق
| الرتبة: | | الصورة الرمزية | | البيانات | التسجيل: | Aug 2008 | العضوية: | 1293 | الاقامة: | بريدة | الجنس: | ذكر | المواضيع: | 1624 | الردود: | 5444 | جميع المشاركات: | 7,068 [+] | بمعدل : | 1.19 يوميا | تلقى » 2 اعجاب | اخر زياره : | [+] | معدل التقييم: | | نقاط التقييم: | 121 | الإتصالات | الحالة: | | وسائل الإتصال: | | | المنتدى :
مكتبة المجالس رحلة امرِئ القَيس إلى القسطنطينيّة رحلة امرِئ القَيس إلى القسطنطينيّة بين الواقع والخيَال ـــ د.حسين سَلمان جمعَة
رحلة امرِئ القَيس إلى القسطنطينيّة بين الواقع والخيَال ـــ د.حسين سَلمان جمعَة
ليس جديداً أن يعرض باحث لهذه الرحلة؛ فقد سبقه بحاثة أجلاء وتصدوا لمعالجتها. ولعل هذا يزيد في دقة مناقشة القضية، وقد يسبق الوهم إلى أن الستار أسدل نهائياً عليها؛ ليجعل الولوج فيها – كما يُعتقد – غير ذي فائدة. ويبقى عزاء المرء لنفسه أن الرؤية الأدبية أو الإنسانية أو الاجتماعية لا تقف وحيدة الجانب عند وجهة نظر ما، كما أنه لا تستطيع حدود مهما كانت صارمة أن تنهي أية قضية فكرية. وهذا ما حفز النفس على معرفة رحلة امرئ القيس إلى القسطنطينية معرفة جديدة قوامها الأساسي دراسة شعره.
يحثنا المنهج على قراءة النص الشعري قراءة واعية متأملة دون أن يَفصل عن الظروف المحيطة به وبصاحبه، والوقوف على ملابساته التاريخية والاجتماعية والنفسية، ويدعونا في الوقت نفسه إلى معرفة آراء القدماء والمحدثين، والإلمام بأخبار الشاعر.
وهذا يدفعني إلى القول: إني لا أدعي السبق بعرض الحقائق جميعها في هذا المقال ولكني أسعى إلى توثيق رحلة الشاعر وتصحيح ما التصق بها من آراء زائفة، وأسعى إلى تصويب الرأي في وفاته لأجلو خرافة الحلة المسمومة التي قيل: إنها كانت سبب هلاكه في ديار الغربة والارتحال، وقضايا أخرى تتضح من الحديث عنهما.
الآن أستأذنك للرحيل لنتعرف سوياً على امرئ القيس الشاعر الجاهلي القديم الفحل الذي وضعه ابن سلام في طبقته الأولي(1). فهو لم يسبق الشعراء لأنه قال "ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ"(2). لقد كان أحسن أهل طبقته تشبيهاً؛ وهو "أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة"(3). وسبق عمر بن الخطاب هؤلاء جميعاً إلى معرفة قدر امرئ القيس وقيمة شعره فقال: "امرؤ القيس سابقهم –[يعني الشعراء]- خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر"(4). وقال علي بن أبي طالب: "رأيت امرأ القيس أحسن الشعراء نادرة وأسبقهم بادرة، وانه لم يقل لرغبة ولا لرهبة"(5).
وامرؤ القيس لقب له واسمه حُنْدج بن حجر بن الحارث بن عمرو (المقصور) بن حجر (آكل المرار)..(6)، ولد في بلاد بني أسد(7)، وترعرع في بني حنظلة، وأقام بينهم حتى إذا شب وصلب عوده انطلق لسانه بالشعر متأثراً بخاله المهلهل الذي يعد أول من رقق الشعر(8). كما تأثر بمن سبقه من الشعراء مثل ابن خذام الذي أشار إليه الشاعر في إحدى قصائده(9):
عُوجاً على الطَّلل المُحيلِ لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن خِذامِ
كان امرؤ القيس غزلاً ميالاً بطبعه إلى اللهو، مستغرقاً يحب الشهوات طالباً اللذات. وشجعه على هذا السلوك مُلكُه وترفه وما منحه الله من جمال الوجه حتى قيل: إن الناس قيسوا بجمالهم إليهم(10). وفوق ذلك كله كان استعداده الفطري مقوياً لذلك السلوك فجاهر بغزله الصريح، وتحدث عن النساء بأسمائهن في أكثر من قصيدة. لهذا عده ابن قتيبة من عشاق العرب وزناتها(11). بيد أن المرء يلاحظ أن حياته لم تستمر على الشاكلة التي وصم بها؛ فمقتل أبيه غيّر سلوكه، وجعله رجل جد يسعى إلى الأخذ بثأره بعد أن كان رجل لهو يدب إلى حرمات النساء. فقد حرم الطيبات التي أحبها على نفسه وأقسم ألاَّ يصيب امرأة وألاَّ يغتسل أو يدهن أو يشرب خمرة حتى يدرك وتره من قاتلي أبيه. ويبدو أنه يملك همّة عالية وينطوي على نفس طموح إلى المجد، ولا أدل على هذا من شعره، الذي يقول فيه(12):
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشةٍ
كفاني –ولم أطلب- قليل من المال
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ
وقد يدركُ المجد المؤثل أمثالي
حمل امرؤ القيس عبء الثأر على عاتقه دون إخوته، وأخذ يعد العدة لحرب بني أسد وأظهر رغبة أكيدة في إعادة ملك أبيه وأجداده؛ فارتحل طالباً العون مرة من أخواله بني ربيعة، ومرة يستحث أبناء عمومته من اليمن وقبائلها(13). ولكنهم جميعاً انفضوا عنه بعدما أمدوه، بينما يرى أنه لم يشتف من بني أسد.. ويبدو أن الحظ قلب له ظهر المجن مع القبائل العربية؛ بل لعل مما زاد الأمر وبالاً عليه ما فعله المنذر بن جابر السماء. فقد جهز جيشاً كبيراً يطلب فيه عنق امرئ القيس، فهرب لاجئاً إلى (المعلى) – وكان من جديلة طيء-(14) ولم ينجه إلا دخوله في ملك الروم، وكانت بلاد الشام تابعة لقيصر بيزنطة. وقد ذكر ذلك في شعره مادحاً المعلى الذي أجاره ومنعه من المنذر(15):
كأني إذ نزلت على المعلى
نزلت على البواذخ من شمام
فما مَلِك العراق على المعلى
بمقتدر ولا ملك الشآم
لعل هذه الأسباب دفعت الشاعر إلى التوجه نحو القيصر لمساعدته. وأعتقد أنه في طليعة من توجه إلى ملك رومي؛ إذ لم يحدث لملك عربي من مملكة كندة العربية الأعرابية أن فعل هذا. فمملكة كندة كانت شوكة في حلق الفرس والمناذرة معاً، ولم تكن على وفاق مع الغساسنة؛ ولا أدل على هذا من البيتين السابقين. وقد استفاد الروم من هذا العداء القائم بين كندة من جهة وبين الفرس والمناذرة من جهة أخرى. ومهما يكن من أمر كندة فقد تهاوت أركانها تحت وطأة ظلم ملوكها لرعيتهم، مما جعلها تنقض عليهم واحداً تلو الآخر، وكان بنو أسد قد انقضوا على حجر فقتلوه. لم يكن تهدم هذه الملكة بسبب ضغوط خارجية عنها – وإن كان الفرس والروم يعمدون أحياناً إلى ضرب القبائل العربية بعضها ببعض كما فعلوا بين المناذرة والغساسنة – وإنما كان نتيجة أكيدة للظلم الذي مارسه ملوكها.
توجه امرؤ القيس إلى السموءل بناء على نصيحة رجل من بني فزارة كان يأتيه في حصنه؛ في تيماء. وتروي الأخبار أن للسموءل منزلة خاصة عند الحارث الغساني، وهذا بدوره سيمد للشاعر يد العون، ويوصله إلى القيصر(16). وينتهي امرؤ القيس إلى السموءل فينزل مع ابنته وحاجاته وأصدقائه عنده، ويستودعه ابنته وأدرعه وماله، ويبقي معها يزيد بن الحارث بن معاوية، ويختار لصحبته جابر بن حُنَي التغلبي وعمرو بن قميَّة. ويروي الخبر أن السموءل وجه امرأً القيس إلى الحارث الغساني وزوده برسالة شفاعة كي يتوسط له عند قيصر(17).
إن نظرة متأملة إلى هذا الخبر – وإن تكن عجلى – توضح بهتانه، وتفضح كذب ناسجيه. ولعل أكثر ما ينفيه محاولة الاستيلاء التي قام بها الحارث الغساني على أدرع الشاعر(18)، وكلنا يعرف أن الحارث قتل أحد أجداد امرئ القيس وهو عمرو بن حجر الملقب بالمقصور(19). فاستعانته بالحارث للوصول إلى بلاط الروم قصة عجيبة غريبة تنكرها أخبار القبيلتين، وخبر امرئ القيس معه باطل ينكره الشعر الذي تقدم ولا يؤكده أي بيت في الديوان. فلو قرأه المرء لما وجد بيتاً واحداً يوحي برد الجميل للحارث الغساني. ترى ألا يستحق مدحاً وثناء على صنيعه؟ وكيف يتفق عدم ذكره وكلنا يعرف أن الشعراء شدوا الركاب إليه مادحين؟ ولعل أبرزهم النابغة الذبياني وعلقمة الفحل وحسان بن ثابت وغيرهم(20). ويبرز شعره أنه مرَّ بحوران وخملى وأوجر من بلاد الشام ويذكر أنه لم ير ما يُسرُّ به بعد أن قطعت الحاجة أسباب اللقاء بأهله، وبأسماء.
ويجتاز تلك الأماكن إلى حماة وشيزر على إبله التي أجهدها في السير(21):
تذكرت أهلي الصالحين وقد أتت
على خَمَلى خُوص الركاب وأوجرا
فلما بدت حوران في الآل دونها
نظرتَ فلم تنظر بعينيك منظرا
تقطَّعَ أسبابُ اللبانة والهوى
عشية جاوزنَا حماة وشيزرا
بسير يضج العَوْد منه يَمُنُّهُ
أخو الجهد لا يلوى على من تعذرا
ويتساءل المرء ما الذي دعاء إلى تغيير طريقه عن الحارث الغساني وهو الوسيط له عند ملك الروم؟!! ويذكر أنه مرَّ ببعلبك فأنكرته مثلما أنكره أهلها وابن جريج في حمص:
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها
ولابن جريج في قرى حمص أنكرا
إن توجه امرئ القيس إلى قيصر ثابت من خلال هذه القصيدة الموثقة، ولم يكن ادعاء. وتراه مصمماً على رحلته مقيماً العذر لنفسه بقوله لو أراد غزو بني أسد بقبائل من حمير لفعل: وهو الذي ألجأهم إلى وادي (جو ناعط) باليمامة؛ كما يفهم من القصيدة:
فدع ذا وسلِّ الهمَّ عنك بجسرةٍ
ذمول إذا صام النهار وهجرا
عليها فتى لم تحمل الأرض مثله
أبرَّ بميثاقٍ وأوفى وأصبرا
هو المنزل الأُلاَّف من جو ناعطٍ
بني أسدٍ حزناً من الأرض أوعرا
ولو شاء كان الغزو من أرض حميرٍ
ولكنه عمداً إلى الروم أنفرا
وتظهر القصيدة أن الشاعر عمرو بن قميئة الشيخ المجرب لم يصدق أن امرأ القيس سيبر بميثاقه، ولم يتيقن من هذا إلا حين أدرك أن الأميال تفصله عن دياره؛ فما كان منه إلا أن بكى غربة الوطن والأهل. وقد وجد حتفه يمشي بين يديه؛ بل إنه يسير إليه بأقدامه. وأحس بهذا يوم رأى (الدرب) أمامه. والدرب – على ما يراه الدكتور عبد الحفيظ السطلي في لقاء معه – ممر مرصوف بالحجارة يصل ما بين بلاد الشام والروم لا تؤثر فيه عوامل الطبيعة؛ ليكون العبور عليه ميسراً للمشاة والخيل صيفاً وشتاءً(22)
عقدت الدهشة لسان عمرو، وضاق ذرعاً بما يحس به من فراق الأهل والخوف من المجهول فلم يتمالك من البكاء. أما شاعرنا فقد طفق يهدئ من روع الرجل، ويمنيه بالأماني حينما يعود ملكاً وسيداً في قومه:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما
نحاول مُلكاً أو نموت فنعذرا
وإني زعيم إن رجعت مُملَّكاً
بسيرٍ ترى منه الفُرانق أزورا
ويؤرخ لنا ما لاقاه في طريقه من إعراض الأصحاب، وقد ازدوجت آلام الغربة. فكلما توقع من إنسان حسن الصحبة ورجا رفقته بدأ منه الإنكار وعدم الرضى. كما يحصي لنا عدد الليالي التي قضاها بعد مغادرته أراضي الجزيرة (خلف منطقة الحساء):
إذا نحن سرنا خمس عشرة ليلةً
وراء الحساء من مدافِعِ قيصرا
إذا قلت: هذا صاحب قدْ رضيته
وقرَّت به العينانِ بُدِّلتُ آخرا
كذلك جدِّي ما أصاحب صاحباً
من الناس إلا خانني وتغيَّرا
ويعترف الشاعر بأنه خاض حروباً مع أشخاص غرباء في مواضع من حلب (تادف وقُذاران). وكان انتصاره في حربه هذه تذكرة بأمجاد آبائه من قبل؛ ولعلها تخفف من حرقة غربته كما تخفف من آلامه لتنكب الأصدقاء:
ألا رُبَّ يوم صالح قد شهدته
بتأذف ذات التل من فوق طرطرا
ولا مثل يوم في قُذاران ظلتهُ
كأني وأصحابي على قرن أعفرا
وتنقطع أخبار عمرو بن قميئة الذي قيل فيه: "بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة وليس ذلك بشيء"(23). وقد تكون وفاته حدثت إبان هذه الظروف فمات في غربته دون هدف فلقبته العرب بعمرو الضائع(24).
إذا وقع أمر الله فليس لأمره دافع، فامرؤ القيس نفسه توفي في طريقه إلى قيصر دون أن يصل إلى غايته. فالقدر أبى عليه أن يحقق رغبته فنكبه بأبيه وبأصدقائه وأخيراً بنفسه. ولنا من قصيدة رواها المفضل الضبي دليل على ذلك(25):
ألا أبلغ بني حجر بن عمرو
وأبلغ ذلك الحيَّ الحريدا
بأني قد بقيت بقاء نفسٍ
ولم أخلق سلاماً أو حديدا
فلو أني هلكت بدار قومي
لقلت: الموت حق لا خلودا
ولكني هلكت بأرض قوم
بعيد من دياركم بعيدا
أُعالج مُلك قيصر كل يوم
وأجدر بالمنية أن تعودا
بأرض الروم لا نسبٌ قريب
ولا شافِ فيُسند أو يعودا
فلو أني نسيت هذا الحزن القاتل على شبابه، وهذا الإحساس الممض بالموت بعيداً عن ديار وطنه لا يمكن أن أنسى هذه العبارة "أُعالج ملك قيصر كل يوم.." فهو ما يزال يجهد للوصول إلى ملك الروم وهيهات أن يتحقق له ما يريد "وأجدر بالمنية أن تعودا".
مات الشاعر غريباً قرب أنقرة بأرض الروم؛ وكأن هذا المكان خلق لدفن الغرباء عن أوطانهم قبل أن يدركوا غاياتهم(26):
أجارتنا إن المزار قريب
وإني مقيم ما أقام عسيبُ
أجارتنا إنَّا غريبان ههنا
وكل غريب للغريب نسيبُ
لا يغير هذان البيتان – وهما من زيادات أبي سهل – حقيقة نهاية حياة شاعرنا المبدع.
انتهت رحلته قرب أنقرة، واغترب غربته الأبدية في قبره، وهي أصعب من الغربة عن الأهل، دفن إلى جنب تلك المرأة(27) وفيه يقول القائل – وقد نسب إلى الشاعر – (28):
ربْ طعنة مثعنجرهْ
وجفنة متحيرهْ
وقصيدة محبرهْ
تبقى غداً بنقرهْ
هل انتهى الأمر عند هذه النقطة؟ بالطبع لا. فموت الفجاءة دهم شاعرنا وقد نكبه الدهر بالجدري والجرب، ولكن من أراد أن يميته بالحلة المسمومة لم ينه رحلته على هذه الشاكلة بل جعلها رحلة ممتعة، فنسج له قصة حب مع ابنة القيصر. وقيل: إن الملك الرومي استعظم فعل امرئ القيس الدخيل الذي قدم طالباً عونه ومدده. صار القيصر المتهتك فجأة شريفاً أبياً تندفع الحمية إلى رأسه حين تناهى إلى مسامعه ذلك النبأ(29).
ولم ينته السخف عند هذا الخبر بل أدخل السمَّار امرأ القيس إلى الحمام مع القيصر. وكان الشاعر قد رآه (أقلف) فذكر ذلك في شعره(30):
إني حلفت يميناً غير كاذبة
أنك أقلف إلا ما جلا القمرُ
إذا طعنت به مالت عمامته
كما تجمع تحت الفلكة الوبر
لعمري كيف يدخل الملك مع امرئ القيس عارياً وتثور حميته عليه في الوقت نفسه حينما أحب ابنته؟
وإذا تركت أخباراً كمثيرة عارية عن الصحة فإنني أتوقف على خبر الطماح الأسدي واسمه حبيب، وكان امرؤ القيس قتل أخاه؛ فطوى كشحاً على مستكنة واندس إلى بلاط القيصر – وكان منه بمكان – وعمل على إيغار صدره، واحتال له وأشار إليه أن يبعث إلى الشاعر بالحلة المسمومة ففعل(31). وإذا كان العقل يقبل وجود رجل في بلاط الروم فإن العقل بجانب الحقيقة لو اقتنع بفكرة الحلة المسمومة. ولا أدل على ذلك من شعره الموثق الذي يقر فيه بمكائد الطماح على الرغم من البعد المكاني بين الاثنين(32):
لقد طَمَح الطماح من بُعدِ أرضه
ليُلبسني من دائه ما تلبسا
وقبل أن أعرض لإثبات وفاة امرئ القيس بسبب الجدري والجرب والحمى أتوقف عند تواريخ الروم. فهي تذكر وفادة أمير على القيصر يدعى قيساً، وتثبت أنه كان أوفد ابنه معاوية قبل قدومه إليه، وكان القيصر قد حثَّ والي اليمن وحليفه ملك الحبشة على إعانة ذلك الأمير العربي. وهو ما ذكره توتوز وبروكوب(33). وهذا أمر مقبول عقلياً ومنطقياً لأنه قريب إلى الواقع؛ أما أن يمده بجيش فهذا محال "فليس هناك مأرب له قيمته في نظر القيصر يجعله يزود امرأ القيس بجيش كالذي تصفه الروايات" (34)، إذ كان في الغسانيين الكفاية للوقوف أمام المناذرة أولاً؛ كما كان فيهم –ثانياً-الوقوف أمام القبائل العربية ولا سيما أن شوكة كندة قد ماتت. ولا ينسى المرء أن يذكر وفاة امرئ القيس التي حدثت ما بين سنتي 530-540م(35) وكان حكم جوستنيان ما بين 527-565 بعد الميلاد (36). وهذا يعني أن امرأ القيس توجه – على الأغلب – إلى قيصر الروم نحو 530م(37).
وإذا كانت الأخبار قد شاعت حول رحلة امرئ القيس فإنا نرى أن الذي وصل إلى القيصر هو الأمير العربي – الكندي وابن عم الشاعر قيس بن سلمة. ويؤكد هذا بروكلمان(38)؛ كما يؤكد عدم وصول الشاعر إلى بيزنطة الدكتور جواد علي إذ قال:
"لم تشر الأخبار عن سفره إلى القسطنطينية وعن كيفية وصوله إلى قيصر، ويظهر من شعره على كل حال أنه سلك طريق الشام، وأنه مرَّ بحوران وبعلبك وحمص وحماة وشيزر. أما بعد ذلك إلى عاصمة الروم فلا نعرف عنه شيئاً"(39). ويبدو أن بعض الباحثين لم يرق له إلا إيصال شاعرنا إلى القيصر ليمده بالعون. ويظهر هذا الباحث نزعة مقيتة كان القربان لها امرأ القيس(40). ويمكنني الآن عرض خبر يؤدي أهدافاً عظمى للحقيقة المجردة. فتواريخ الروم تذكر أيضاً أن رجلاً أصيب بالجدري فمات بسببه وتنص هذه المرة على اسمه بامرئ القيس "وذكر في كتاب قديم مخطوط أن ملك قسطنطينية لما بلغه وفاة امرئ القيس أمر أن ينحت له تمثال وينصب على ضريحه ففعلوا. وكان تمثال امرئ القيس هناك إلى أيام المأمون. وقد شاهده الخليفة عند مروره هناك لما دخل بلاد الروم ليغزو الصائفة"(41).
يضعنا هذا الخبر أمام أسئلة هامة منها: هل يعقل آن ينحت ملك تمثالاً لرجل أحب ابنته وطارحها الغرام؟ أو هل يكون منطقياً أن يُنحت تمثال لامرئ القيس؛ وكان الملك نفسه قد بعث إليه بالحلة المسمومة ليقتله ويتخلص منه؟ بينما يشير الخبر بوضوح إلى إقامة صرح فوق ضريح امرئ القيس. وهذا يدل على احترام القيصر للرجل القادم إليه، كما ينفي مقدرة الطماح على إيذاء امرئ القيس مهما حاول لديه. ويشير الخبر بدقة إلى وفاته قبل أن يدرك القسطنطينية؛ فقد بلغته وفادة الأمير العربي، ومن ثم وفاته بعد ذلك. وكأن الملك يأمل طمعاً في خطب ود حليف جديد من العرب مع الغساسنة.
ولو لم يكن هذا يجمع بين الطرفين لما صنع التمثال أبداً، فالتمثال رمز لتقدير الشاعر الأمير واعتراف من الملك بمكانته في القبائل العربية.
وأراني أعرض هنا للحلة المسمومة التي ادعى أصحابها أنها كانت سبباً في وفاة الشاعر –ولعل الذي يبطل هذه الخرافة ما حققناه من الرحلة سابقاً، وما بين أيدينا من شعره الموثق، وقد يكون جابر بن حني التغلبي من نقل إلينا أخبار الشاعر وشعره(42). فكيف يستقيم له أن ينقل شعره صادقاً ويخفي عنا أخباره عند القيصر وأخبار الحلة المسمومة؟
ونستفيد من الخبر الموجود في الكتاب الرومي القديم أن ذلك الرجل مات بالجدري.
وهذا حق لا يمارى فيه، لأن امرأ القيس يقرّ بمرضه الذي جعله ينتقل على قرٍّ صنعه له جابر بن حني التغلبي، "وجابر هذا من بني تغلب، وكان هو وعمرو بن قميئة يحملانه"(43). قال الشاعر(44):
فسحَّت دموعي في الرداء كأنها
كلىً من شعيب ذات سحِّ وتهتانِ
إذا المرء لم يخزُن عليه لسانه
فليس على شيءٍ سواه بخزَّانِ
فاما تريني في رحالة جابرٍ
على حرجٍ كالقرِّ تخفق أكفاني
تأمل هذا اليأس الذي يطوي نفس الشاعر؛ فثيابه غدت أكفاناً له وقد أشبه الأموات؛ صار يسحُّ دمعه تهتاناً دون أن ينبس ببنت شفة حرصاً على كرامته؛ وهو الذي ملأ الدنيا شعراً، وفرَّج كرب المكروبين:
فيا رُبٍّ مكروبٍ كررتُ وراءه
وعانٍ فككتُ الغلَّ عنه ففدَّاني
ويشير إلى سبب وفاته في سينيته التي رواها الأصمعي. ويعرض فيها لوصف الحمى التي تدهمه ليلاً فتؤرقه فلا يغمض له جفن كأنه أصيب بالنقرس وهذا الداء قديم طالما عاوده سابقاً، فإذا تنفس الصبح انكب على وجهه ملازماً النوم، على حين إذا عسعس الليل تفرغ لهمومه؛ وما آل إليه من حال سيئة(45):
فلو أن أهل الدار فيها كعهدنا
وجدت مقيلاً عندهم ومعرَّسا
فلا تنكروني أنني أنا ذاكم
ليالي حلَّ غولاً فألعسا
فاما تريني لا أغمض ساعة
من الليل إلا أن أكبَّ فأنعسا
تأوبني دائي القديم فغلَّسا
أحاذرُ أن يرتدَّ دائي فأنكسا
لقد أرعبت الحمى امرأ القيس كما أرعبت المتنبي الذي أبدع في وصفها وإن سبقه شاعرنا إلى طرق موضوعها(46). ثم يذكرنا بماضي شبابه متأسياً عليه وقد كانت الكواعب الحسان ترعوي إليه. ويعود مرة أخرى إلى عرض مرضه، إذ ضاقت ذراعه ذرعاً باللباس فلم يطقه؛ وقد غزت القروح جسمه. ودب الخوف في أوصاله، وأيقن أنه سيدرج في أكفانه تندبه الحسان، فصرخ متألماً ومتمنياً لو نفق مرة واحدة وانتهت آلامه:
وما خفت تبريح الحياة كما أرى
تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا
فلو أنها نفس تموت جميعةً
ولكنها نفس تساقط أنفسا
ترافقت الحمى مع الجدري والجرب وتبدلت صحته سقماً، وصار وجهه الوسيم دميماً، وآلت سعادته إلى شقاء وقد تحول الموت عنده إلى بؤس حقيقي:
وبُدلت قرحاً دامياً بعد صحة
لعل منايانا تحولن أَبؤسا
ويروي السكري قطعة شعرية يتضح منها الأمراض المختلفة التي داهمت الشاعر.
فالجدري صيّره مقروحاً فتخاله يلبس جبة منها، بل أنه يهرش جلده كالمعرور؛ وكأنه نكب بالنقرس؛ وبدا القرح منقوشاً في جسمه كنقش الخواتم(47):
لمن طلل داثر آيُهُ
تقادم في سالف الأحرسِ
فاما تريني بي عُرَّةٌ
كأني نكيبٌ من النقرسِ
وصيَّرني القرح في جبَّةٍ
تخالُ لبيساً ولم تُلبسِ
ترى أثر القرح في جلده
كنقش الخواتم في الجِرجسِ
وذكر محقق الديوان في أعلى المقطوعة أنه قالها بأنقرة يذكر علته. وأكثر من تعرض لتحديد وفاته ذكروا أنه مات بالجدري ولكنهم جعلوه في أثناء عودته(48).
تفاقم الأمر على الشاعر المبدع وقد نكبه الدهر مرتين؛ مرة حين ألبسه داء الجدري جبة من القروح وأثقله بالحمى والجرب؛ ومرة أخرى حين اتهمه القصاص والسمار بأنه توفي بسبب الحلة المسمومة لأنه بقي على عهره وتهتكه. ونسوا أنه آلى على نفسه ألا يدهن وألا يشرب خمراً أو يغتسل.. حتى يدرك ثأره(49).
بقي لي أن أتوقف على أمر آخر أجده هاماً في حياة امرئ القيس ورحلته. فالتركيب الجسدي وفَّر له الاستعداد الطبيعي لعدم تحمل المرض وهو يقرّ بضعفه لأنه شيخ هرم، ويذكر هذا في سينيته السابقة
ألا أن بعد العُدمِ للمرء قنوةٌ
وبعد المشيب طول عمرٍ وملبسا
ولعل في تركيبه العضوي ما يقوي قبول استعداده للأمراض الجلدية فتظهر القروح أو الجرب أو تشقق الجلد كلما تقدم العمر بالمرء.
كلمة أخيرة لا بد منها لتنهي الحديث عن هذه القضية برمتها. لو عرض باحث ما لشعر امرئ القيس الموثق ومحصه لما وجد تعريضاً بالقيصر الذي أسلمه إلى الموت، ولا بالطماح الأسدي الذي احتال له عند القيصر، ولما وجد ذكراً لابنة القيصر تلك الصبية التي فتنت الشاعر – وهو الذي لا يستطيع أن يمسك لسانه عن التغزل وذكر النساء بأسمائهن – ولما وجد أية إشارة في شعره الموثق والمنحول إلى تلك الحلة المزعومة التي أدت إلى وفاته. فهل يعقل أن يذكر الجرب (العرة) والجدري (القرح) والحمى (التي تجعله أبداً يقظاً في ساعات الليل) ولا يذكر الحلة؟ حتماً هذا محال.
وأنا لا أكتم أحداً سري، فأنا أقر برحلة امرئ القيس إلى الحد الذي عولت عليه سابقاً من خلال شعره الموثق الموجود بين ظهرانينا، ولكني أنكر بشدة استخفاف السمار والقصاص والرواة بعقل الإنسان. فلما عملوا على تقوية روح القصص حول الحلة المزعومة أتموا رحلة امرئ القيس إلى بلاط القيصر وأفرحونا بقصص أخرى مختلفة عنها. وإذا كان عملهم القصصي يحظى بإعجابي لقوة الخيال الذي يحمله وإحكام الصنعة فإن تدجيلهم يثير حفيظتي عليهم؛ كما يشير شفقتي على تراثنا الأدبي العربي الذي لحقه خلط وزيادات أفقدته بهاءه الأصيل، ويبقى لك أن تحكم.
***
الحواشي:
(1)-محمد بن سلام: طبقات فحول الشعراء، ص 51.
(2)-المصدر السابق، ص 55، وانظر ابن قتيبة: الشعر والشعراء ج 1 ص 128.
(3)-السيوطي: المزهر ج 2 ص 479، وانظر ابن سلام: طبقات فحول الشعراء ص55.
(4))و(5)-ابن رشيق: العمدة ج 1 ص94، وابن قتيبة: الشعر والشعراء ج 1 ص 127 والسيوطي: المزهر ج 2 ص 478.
(6)و(7)و(8)-الأصفهاني: الأغاني ج 9 ص 77-78، والسيوطي: المزهر ج 2 ص476.
(9)-الديوان – ط 3 – مصر: ص 114، والجزائر: ص 250، والشعر والشعراء ج 1 ص 128، وذكر أن اسم خذام روي على وجوه مختلفة منها: حزام، حمام..
(10)-البغدادي: خزانة الأدب، مجلد 1 ص 160.
(11)-ابن قتيبة: الشعر والشعراء ج 1 ص 122.
(12)-الديوان – مصر – ص39، والجزائر ص 122-123.
(13)-الأغاني ج 9 ص 90، وتاريخ اليعقوبي ج 1 ص 217-219.
(14)-الأغاني ج 9 ص 93.
(15)-الديوان – مصر- ص 140.
(16)-الأغاني ج 9 ص 96-97.
(17)-المصدر السابق ج9 ص 92-93.
(18)-ابن قتيبة: الشعر والشعراء ج 1 ص 119.
(19)-جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام ج 3 ص 263.
(20)-ابن قتيبة: الشعر والشعراء ج 1 ص 118، وطبقات فحول الشعراء ص 160.
(21)-الديوان –مصر-ص 56-71، والجزائر: ص163.
(22)-ويرى الدكتور السطلي أن مثل هذا الدرب بقي معروفاً إلى عهد قريب في منطقة من حلب يقال لها (باب الهوى) على حين جاء في معجم البلدان لياقوت أن الدرب مضيق فرب طرسوس، مادة (درب) ج2 ص447.
(23)-ابن سلام: طبقات فحول الشعراء ص 160، وانظر ابن رشيق: العمدة ج 1 ص 105.
(24)-الأغاني ج 16/158-159. 18 ص 139، وجواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام ج 3 ص 263.
(25)-الديوان – مصر – ص 213، والجزائر – ص 425.
(26)-الديوان – مصر – ص 357، والجزائر – ص 410، والأغاني ج 9 ص 101-مع اختلاف الرواية.
(27)-الأغاني ج 9 ص 99-101.
(28)-الديوان – مصر – ص 349، والجزائر ص 47، وص59 وفيها تفصيل.
(29)-ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 109، والأغاني ج 9 ص 99، وانظر الديوان – الجزائر – ص46-47.
(30)-الديوان –مصر – ص 280، يقال للصبي إذا كان قصير الغرلة: قد ختنه القمر، ورجل أقلف لم يختن، والغرلة جلدة الذكر.
(31)-الديوان – مصر – ص 213.
(32)-المصدر السابق ص 108، والجزائر – ص 239.
(33)-مقدمة الديوان – الجزائر – ص 48، وشعراء النصرانية – لويس شيخو – ج 1 ص 35، ودائرة المعارف البريطانية.
(34)-علي الجندي – تاريخ الأدب الجاهلي ج 2 ص55.
(35)-انظر الزركلي: الأعلام، امرؤ القيس، ويحدد سنة مولده (130 ق هـ، و487م) وسنة وفاته (80 ق هـ، و539م) وجرجي زيدان: تاريخ آداب العربية ج 1 ص 107، وفؤاد أفرام البستاني: الروائع ص بج، وجواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام ج 3 ص 265 وانفرد لويس شيخو فقال بوفاته سنة 565م: شعراء النصرانية ج 1 ص 35، وأصلح علي الجندي بين الجميع فمد بسنة وفاته بين سنتي 539-565؛ تاريخ الأدب الجاهلي ج 2 ص 57.
(36)-انظر المصادر السابقة، ومقدمة الديوان – الجزائر – ص 48.
(37)-انظر جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام ج 3 ص 265.
(38)-بروكلمان: تاريخ الأدب العربي – ج1 ص 98- الترجمة العربية.
(39)-جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلاح ج 3 ص 263.
(40)-فؤاد أفرام البستاني: الروائع ص بب.
(41)-الديوان – بيروت، صادر – ص 26.
(42)-سليم الجندي: امرؤ القيس ص 27-28.
(43)-الديوان –مصر- ص90.
(44)-المصدر السابق ص 90، والجزائر ص 210-211.
(45)-الديوان –مصر-ص105، والجزائر – ص 235-236.
(46)-ديوان المتنبي – صادر – ص 484 ومن أبياته في وصف الحمى:
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتوسعه بأنواع السقام
كأن الصبح يطردها فتجري
مدامعها بأربعة سجام
(47)-الديوان – مصر – ص 339.
(48)-انظر هامش رقم (35).
(49)-الأغاني ج 9 ص 88.
المصادر والمراجع:
م/ن
|
| |