القط والفار
كان رجل فقير عنده هر رباه. وأحسن معاملته .
وكان القط قد عرف منه الشفقة.
فكان لا يبرح من مبيته. ولا يسعى لطلب قوته.
فحصل له الهزال. إلى أن عجز عن الصيد.
وصار يسخر به من أراذل الفار .
وكان في ذلك المكان. مأوى لرئيس الجرذان.
وبجواره مخزن سمان.
فاجترأ الجرذ لضعف أبي غزوان.
وتمكن من نقل ما يحتاج إليه.
وصار يمر على القط آمناً ويضحك عليه.
إلى أن امتلأ وكره من أنواع المطاعم.
وحصل له الفراغ من المخاوف والمزاحم. فاستطال على الجيران.
واستعان بطوائف الفار على العدوان.
وافتكر يوماً في نفسه. فكراً أداه إلى حلول كثيره.
وهو :::: أن هذا القط وإن كان عدواً قديماً. ومهلكاً عظيماً.
ولكنه قد وقع في الانتحال. وضعف عن الصيد والاغتيال.
وقوّتي إنما هي لسبب ضعفه.
وهذا الفتح إنما هو حاصل بحتفه.
ولكن الدهر الغدار. ليس له على حالة استمرار.
فربما يعود الدهر إليه. ويعيد صحته وعافيته عليه.
فإن الزمان الدوار ينهب ويهب. ويعطي ما سلب. ويرجع فيما وهب.
وإذا عاد القط إلى ما كان عليه. يتذكر من غير شك إساءتي إليه فيثور قلقه.
فلا بد من الاهتمام قبل حلول هذا الغرام.
وقدم مقام الهر وسلم عليه سلام مكرم مبر. وقدم ما لديه إليه.
وترامى بكثرة الاشتياق والتودد عليه.
وقال: :: يعز علي. ويعظم لدي. أن أراك يا خير جار. في هذا الاضطرار.
وسيكفيك الله هذا الجهد والضير. ولكن العاقبة إن شاء الله خير.
فتناول القط من تلك السرقة. ما سد رمقه. وشكر له تلك الصدقة.
ثم قال:::: إن لي عليك من الحقوق. مثل ما للجار الصدوق. على الجار الشفوق.
وأردت أن يتأكد الجوار بالمصادقة. وتثبت المحبة المواثقة.
وإن كانت بيننا عداوة قديمة. فنترك من الجانبين تلك الخصلة الذميمة.
ونستأنف العهود. على خلاف الخلق المعهود.
وها أنا أذكر لك سبباً يحملك على ترك خلقك القديم.
ويرشدك في طريق الإخاء إلى الصراط المستقيم.
وهو أن أكلي مثلاً. ما يغذي منك بدناً. فضلاً عن أن يظهر فيك صحة وسمناً.
فإن أمنتني مكرك ورغبت في صحبتي. وعاهدتني على سلوك طريق مودتي.
وأكدت ذلك لي بمغلظات الأيمان حتى أستوثق باستصحابك.
وأبيت آمناً في مجيئك وذهابك. ولو كنت بين مخاليبك وأنيابك.
فإني ألتزم لك كل يوم. عندما تستيقظ من النوم. بما يسد خلتك. ويبقي مهجتك.
صباحاً ومساء وغداء وعشاء.
فلما رأى الهر. هذا البر. أعجبته هذه النعم. وأطربه هذا النغم.
وأقسم طائعاً مختاراً. لا إكراهاً ولا إجبارا.
أنه لا يسلك مع الجرذان. إلا طريق الأمان والإحسان.
فرجع الجرذ وهو بهذه الحركة جذلان. وصار يأتي القط واستوى.
وسلمت خلوات بدنه من الخواء.
وقد كان لهذا القط ديك صاحب قديم. وصديق نديم.
كل منهما يأنس صاحبه. ويحفظ خاطره بمراعاة جانبه.
فحصل للديك تعويق عن زيارة صديقه. فلم يتفق لهما لقاء.
إلا بعد أن زال عن القط ذالك الشقاء. وحاز تمام الشفاء. فسأله الديك::: بماذا زال ذلك الهزال.
فأخبره بخبر الجرذ وأنه صار عنده من أعز الأصدقاء الخيرين الأمناء.
فضحك الديك مستغرباً. وطفق يصفق بجناحيه متعجباً.
فقال له::: مم تضحك؟؟؟.
قال::: من سلامة بطنك. وانقيادك لمداهنك. وحسن صنائعك. على غشاك ومخادعك. ومن يأمن لهذا البرم. الواجب قتله في الحل والحرم. المفسد الفاسق. المؤذي المنافق. الذي خدعك حتى أمن على نفسه. وأوقعك في حبائل كيده ونحسه. مع أنك لست عنده بمشكور. ولا بالخير مذكور. وإنما الذي شاع. وملأ الأسماع. أنك تحل عقده. وتنقض عهده. وتنكث الأيمان. وتجازي بالسيئة الإحسان. فإنه لما لم ير منك ما يسره. أصبح متوقعاً ما يضره. وأعظم من هذا أنه عاهدك. وجاهرك بالشر وعادى وقال:::: إنه أحياك بعد الموت. وردك بعد الفوت. وإنه لولا فضله عليك. وبره الواصل إليك. لمت هزالاً وجوعاً. ولما عشت أسبوعاً. وإنه شفاك وعافاك. وصفا لك وصافاك. وهل سمعت أن جرذاً صادق هرة. أو اتفق بينهما مرافقة. فمناصحة القط والفار. كمصادقة الماء والنار.
فلما سمع القط هذا الكلام. تألم خاطره بعض إيلام
وقال للديك:::: جزاك الله عني خيرا. ولكن من أخبرك بهذا الخبر. وصدقك ما أثر.
فقال:::: لقد غرك الجرذ بلقيمات من الحرام. والسحت المنغمس في الآثام. وجعلها لك بمنزلة حبة الفخ. فلا تشعر بها إلا وأنت في المسلخ. حيث لا رفيق يتشفع فيك ولا أخ. وهناك يعرف تحقيق هذا الكلام. وما أطلعنك على ما قلت إلا من فرط الشفقة والسلام. فترجح جانب صدق الديك عند القط فقال في خاطره. بعدما أجال قدح ضمائره:::: إن هذا الديك من حين انفلقت عنه البيضة. وسرحت معه من الصداقة في روضة. ما وقفت له على كذب. ولا سمعت أنه لشيء من الزور مرتكب. فهو أبعد من أن يخدع. وأجل من أن يغش ويتصنع. ثم قال له:::: كيف أعرف صدق هذا الخبر. قال:::: نعم. ورب الحرم علامة ذلك أنه إذا دخل عليك. ونظر إليك. يكون منخفض الرأس. مجتمع الأنفاس. متوقعاً حلول نائبة. أو نزول مصيبة صائبة. متلفتاً يميناً وشمالاً. متخوفاً نكالاً ووبالاً. طائفاً يتنقب. خائفاً يترقب. وذلك لأنه خائن. وبينما هما في المحاورة. والمناظرة والمشاورة.
دخل أبو جوال. وهو غافل عن هذه الأحوال. فرأى أبا يقظان. يخاطب أبا غزوان.
فخنس وقهقر. وتوقف وتفكر. وهو غافل عما قضى الله وقدر.
فاشمأز لرؤيته الديك واشمعل. وانتفض وابرأل.
فارتعد الجرذ من شيخ الديكة. لما رأى منه هذه الحركة. وانتفش وانروى. وتقبض وذوى.
والتفت يميناً وشمالاً. كالطالب للفرار مجالا.
والقط يراقب أحواله. ويتميز حركاته وأفعاله.
فتحقق ما قيل له فيه ونظر إليه نظر المنتقم.
وهم واكفهر. ورقصت شواربه وازبأر. ونسي العهود والأيمان.
ونبض فيه عرق العداوة القديمة والعدوان.
فوثب عليه وأدخله في خبر كان.
وأخلى منه الزمان والمكان